تسويق الفكرة
اختص التسويق قديماً بما يعرف بالمنتج – product أو الخدمة – Service، ولكن مع التطور المذهل الذى لحق بالتسويق، ومع كونه أصبح الأداة الأهم فى أيدى الشركات الناجحة، فقد امتدت اختصاصات التسويق لتشمل تسويق الأفكار، تسويق الأشخاص، الأنشطة الخيرية ، السياسيين، تسويق المعلومات، الأماكن… إلى آخره.
فقد تجد مثلاً حملة تسويقية ضخمة للتبرع بالدم ، أو بالملابس المستعملة، و تجد حملة تسويقية كبرى لمرشح رئاسى.
*بالمناسبة لماذا قلت هنا حملة تسويقية وليس حملة دعائية؟
إذا كان المرشح الرئاسى سيعلق بعض اللافتات، و يلقى ببعض الإعلانات المقتضبة فى التلفزيون أو على اللافتات الخارجية – outdoors، فإلى الآن هى مجرد حملات إعلانية ممزوجة بإشهار للعامة – publicity، أما إذا بدأ المرشح فى دراسة حاجات المواطنين ومعرفة أبرز مشاكلهم وتقسيم المجتمع لشرائح واستهداف كل شريحة على حدة وتوجيه رسائل تسويقية خاصة بكل شريحة…. الخ من القصص التسويقية التى نعرفها، فهو بذلك يمارس التسويق على أصوله، وحينها تعتبر حملة تسويقية كاملة.
نعود لعروض السوق – Market offers، والتى تشمل مثلاً الأفكار.. هل تستطيع فعلاً أن تسوق لفكرة معينة؟
تسويق الأفكار يعتبر من أكثر الأجزاء عبقرية فى التسويق، فهو يتعلق أحياناً ببيع الشيء قبل بيعه، فإذا كنت تتذكر مثلاً قصة صاحب صفحة المليون دولار، والذى أنشأ صفحة إعلانية بسيطة جداً تتكون من مليون بيكسل، كل بيكسل يساوي 1 دولار، ثم بدأ حملته التسويقية للفكرة.
أعلن فى البداية أن سبب إنشائه الصفحة هو أنه بحاجة لتغطية مصاريف دراسته الجامعية، وبدأ يبني استراتيجيته التسويقية كلها على فكرة واحدة فقط.. ان من سيشترى مساحة إعلانية على هذه الصفحة سوف يشترى قطعة من التاريخ، بهذا التاج لاين الشهير (Own a piece of history)، وهو لم يخطئ التعبير بالفعل، فهذه الصفحة إذا نجحت وهو ما كان بالفعل، فسوف يراها الملايين على مدار سنين قادمة، وبالتالى سيروا هذه الإعلانات على الصفحة.
بدأ الشاب يحيط نفسه بهالة إعلامية تتحدث عن هذه الفكرة المليونية المجنونة، والتي ربما تجعل من هذا الشاب الذى يريد شراء زوج جوارب جديدة (كانت من ضمن أهدافه من تجميع المليون، على سبيل الفكاهة الناجحة جدا)، ومع تناقل الصحف والقنوات المتخصصة لهذا الشاب وفكرته التى نجح فى تسويقها، فقد تهافت عليه المعلنين من كل حد وصوب لشراء مساحات فى هذه الصفحة التاريخية.
لقد باع هذا الشاب منتجه كله .. قبل حتى أن يبيعه!
دليل على أن الفكرة نجحت بسبب التسويق وليس بسبب الفكرة.. أن نفس الفكرة تكررت مراراً وتكراراً ولم تنجح.
دليل آخر على عبقرية هذا الشاب ‘توي’ التسويقية، هو أنه وعلى الرغم من انه انجليزي الجنسية، إلا أنه اختار الدولار، وليس الاسترلينى او اليورو مثلاً، وعندما علّق على السبب فقال أن الدولار هو أكثر العملات فى العالم انتشارا، ولكن تريد الحق؟ إني لا أظن أن هذا هو السبب الحقيقى.
اسألك أنا لماذا الدولار أكثر انتشاراً؟ دعنى أسألك سؤال أكثر منطقية من هذا، لماذا أمريكا؟
أريدك أن ترى وجه هذا البلد أمريكا من زاوية مختلفة قليلاً.. أمريكا تعتبر وبالنسبة لمساحتها العملاقة من أقل البلاد فى العالم فى الموارد، بل إن بلاد متأخرة جداً فى افريقيا واسيا تفوق هذه البلاد الجديدة في الموارد، ولكن أمريكا وعلى الرغم من ذلك هي الأقوى والأشهر.. لماذا؟ لأنهم مخترعي التسويق!
التسويق علم قديم جداً، ولكن بصورته العلمية المنظمة الحديثة هو فن أمريكى خالص، وهم لم يضعوه قواعد فى الكتب فقط، بل كان لهم السبق فى تنفيذه وتطبيقه حرفياً فى كل مجالات الاقتصاد والسياسة والفن وغيرها..
ما هو ذلك الاختراع المسمى بهوليود؟ لماذا يتهافت أى ممثل أوروبى للظهور فى هوليوود، لماذا لا يلمع نجوم السينما الانجليز إلا فى هوليوود، وحتى عندما يفعلون فإنهم لا يحصلون على الشهرة والرونق المحيط بالممثل الأمريكي؟ سأقول لك لأن الأمريكان يجيدون الدعاية وفن الشهرة (التسويقي)..
لماذا يظهر طفل اسمه جستين بيبر، ويغنى .. كما يفعل الملايين حول العالم، وبدون أى مزايا مطلقة تجعله يتميز على أقرانه فى أوروبا أو أى مكان آخر فى العالم، ثم تجد أخباره و ألبوماته وفيديوهاته يتابعها الملايين، وعندما تتابع قصته التى يحاول صيغتها بشكل تسويقي درامى، لا تجد فيها ما يبكيك كما يفعلون هم ! إنه التسويق..
كيف ربطت أمريكا بلاد العالم، البعيدة والقريبة، بتلك المادة التبغية البدائية والتى نسميها سجائر، وكيف ربطت هذه السجائر بشخصية الكاوبوي الشهير المرسوم على علب مارلبورو الحمراء الشهيرة؟ أو شخصية البطل الأمريكي الخارق العملاق (كالعادة) الذى يواجه الأعداء والمجرمين وهو مازال يحتفظ بابتسامته وتلك السيجارة في يده؟ وكيف وصل الأمر من كون السيجارة مجرد متعة لحظية سريعة إلى إدمان واقتصاديات سوق وأموال طائلة لا حصر لها تصرف على هذه الملفوفات يومياً؟ انه التسويق..
ما هو الحلم الأمريكي؟ الحلم الأمريكي هو ذلك المنطق الغير منطقى الذى يقول لك أنك إذا أردت النجاح، أو أن تصل أفكارك إلى الآفاق فسيكون فى أمريكا..لماذا؟ لأنك فى أمريكا تستطيع أن تبيع الوهم طالما قادر على تسويقه، وأمريكا هى بلد التسويق..
كنت أتابع فيديوهات برنامج الأعمال والريادة الشهير شارك تانك – shark tank وكنت أتعجب من حجم تفاهة المنتجات المقدمة فى أغلب الأوقات، وعلى الرغم من ذلك أعلم أنهم سيحصلوا على تمويل كبير لهذه المنتجات، وكالعادة ستنجح فى السوق الأمريكى طالما يستطيع أصحابها أن يطبقوا فنهم المفضل.. التسويق.
لماذا يقولون أن أمريكا هي القوة العسكرية الأقوى فى العالم، وهى قوة لا يمكن الاقتراب منها، وعندما تمعن النظر فى هذه الأقاويل التي انطبعت في ذهن الناس حقائق فستجد أنها لا تمت للواقع الهزيل للجيش الأمريكى بصلة، فلن تجد حتى انتصار واحد لأمريكا مقنع فى أى حرب دخلتها، ولن تجد ذلك الجندى الأمريكى الشجاع المغوار، أو الذى يتميز بأخلاق الفرسان كما يصوروه فى أفلامهم الهوليودية، أو كما يصنعهم فنهم المفضل .. التسويق!
هذه مجرد أمثلة من واقع تسويقى قوى جداً تعيشه أمريكا قد حوّلها من دولة بدائية يسكنها الهنود الحمر، إلى بلاد قوية واقتصاد قوى وذلك فى ظرف زمن قياسى أعتقد أنه لم يحدث مع أى بلد آخر فى العالم، وأريدك الآن أن تسرح بخيالك قليلاً لترى حالات أمريكية أخرى كثيرة وهى تلمع تحت قوى التسويق..
إن تسويق الفكرة هو أقوى أنواع التسويق فى العالم، فما المنتجات والخدمات فى الحقيقة إلا أفكار!
مقال ممتاز ومدونة رائعة شكرا لك …
رااااااااااااااااائع
شكرا جزيلا ساعتني في اخذ فكرة لاطروحة ماجيستر